” هل بينكم عاقل” ؟
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( آراء)
في الماضي كانت كلمة “المخزن” وحدها كافية لتهد الجبال و تُصيرها دكّاً حتى يَخِرَّ المواطن صعقاً، أما الآن فيبْدو أن الأمور قد تبدّلت و اتّخذَت وجهاً لم يتوقع أي مُلاحظ نبيه تفاصيل ملامحه.
الاحتجاجات والمظاهرات و المسيرات، صارت شيئا مأْلوفا في كل أنْحاء البلد، أمام المجلس النيابي و أمام مقرات الوزارات و مندوبياتها، أبواب ، كما قبالة دور النيابات والمحاكم، بل حتى أمام مظاهرة أخرى، “صديقة” أو “معادية” !
واقعُ التظاهرات والاحْتجاجات هذا، يُسميه الناشطون في السياسة “حِراكاً”، وبصرف النَّظر عن صُعوبة الظّفر بالفعل الذي اشْتُقّ منْه هذا الاسم، الذي يبدو شكله مصدراً، فهو في الواقع “حِراك” حقيقي بلغ، في أحوال معينة، درجة نضالية عالية ، و في مناسبات عديدة نُقِل “رجال المخزن” على عجَل إلى مَصالح المستعجلات لتلقي العلاجات بعدما أصاب رؤوسَهم وابلٌ من سجّيل، في معاركَ تعامل فيها المواطنون مع المخزن كأبرهة الحبشي !
شعارات المُحتجين تكاد تتشابه، فهي، وإن اخْتلفت دوافعُها، اتّحدت في كونها مطلبيةً، فجميع المحتجين يطالبون بالشغل والصحة، وآخرون بالسكن ورفع الأجور، وبعضهم بالتعليم، وآخرون بالحماية و الدعم، وغيرها من المطالب المنوّعة.
و بالإضافة إلى التوحُّد في خاصية “المطالبة”، فالمُحتجون يتحدون أيضاً في كون مُخاطَبهم الوحيد هو المخزن ذاته ولا أحد غيره.
صورة “المخزن”، رغم أنها أصبحت في الدرك الأسفل، إلا أنه ظل دائما، في ذهن الجميع، ذلك الكائن الأسطوري القادر على صناعة المُعجزات و حلِّ المُعضلات و جميع المُشكلات.
هذه الحقيقة ترسَّخت في ذهْن الجميع بسبب أن “المخزن”، فرّج الله كُربته، كان على الدوام يعاني من مرض مزمن اسمه “الريع” واتخذه منهاجا لسياسة عُنوانها الرئيس هو “الضرب”، أحيانا بتوجيه العصي و الهراوات نحو الظهور، و في أُخْرى بتوجيه ” لكمات موجعة” نحو “بطون” البعض، و بدل اشتغال دولة المخزن على تنفيذ سياسة عمومية غايتها بلوغ العدالة و تحقيق التنمية، عملت على “تطوير” أساليب الريع و طرقه. وعبْر الزمن، انتقلت العدوى إلى الجميع، وأضْحى الكل يرى في “المخزن السعيد” تلك العين التي لا تنْضبُ أبدا، و هكذا أصْبَح الجميع يقْتاتُ من ريع “المخزن” أحزابا و نقابات وجمعيات، جماعات و وِحْــداناً، بل إن الشعب، بأطيافه، أضحى مرتبطا بـ”فضائل الريع”، بصورة أو بأُخرى، و “الريع”، كما عرفه المختصون، دخلٌ دوْري، لكنه غير ناتجٍ عن عمل بل عن “دُفعات مُنتظمة مُتأتيةٍ عن مِلْكية عقارية ” و التعريف ذاته يُقرُّ بأن الريع تطور مع تعدُّد أشْكال ظهـوره، إلا أنه حافـظ دوما على خاصية تجعله ناتجا عن غير عمل !
“الريع”، بهذه الصورة، أضحى موضوعا يشغل الحيِّز الواسع من النقـاشات السياسية الحزبية التي يعرفها البلد بين الفينة و الأخرى، أما الحكومات المغربية المتتالية، فلم تحاول قطُّ خلق واقع مناهض للريع، و حتى من أعلن من بينها نيته في مُقارعة الريع، فإن “النية” تلك لم يُكتب لها الانتقال إلى مرحلة التنفيذ ، و ظلت حبيسة أدراج النظريات .
الحراك الريفي الذي اندلع منذ قرابة نصف عام بسبب مقتل مواطن في شاحنة نفايات كان النقطة التي أفاضت الكأس، و عوض قيام “الدولة ـ المخزن” بالانكباب على خلق الشروط الموضوعية و القانونية لمكافحة وباء الريع ، فإنها لازالت تفكر بمنطق ريعي لا بمنطق دولة المؤسسات ، بل إنها تحاول كل مرة بتوظيف هذا الريع لمعالجة مشاكل مستعجلة، وهي بذلك، و دون شك ، مقاربة غير دوْلَتِيَّة بل هي مقاربة بدائية ستؤدي حتما إلى تصاعد فعل الاحتجاج المشروع نحو مستويات أكثر راديكالية.
فهل من عاقل ؟