“في الحاجة إلى المثقف الأمازيغي”
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( آراء)
لقد ثبتَ عبر أزمنة التــاريخ القديم و المعاصر، بصــورة لا تدعو للارتياب، أن هذا البلد تَمتّـعَ، على جهـة الدَّوام و الاستمرار، بخصوصية الاستقلال عن الشرق، و أن هذا الاستقلال تَحَقَّــق منـذ أواسط القـــرن السابع الميلادي، أي مباشرة بعد اعتناق الأمازيغ الدّين الجديد، مع تأسيس إمارة النكور بسهل تمسامان، قبل أن يتأكد ذلك بتأسيس مملكة برغواطة و ما تبعها من دول أمازيغية بداية مع المرابطين و انتهاء بالعلويين.
مع تكريس واقع الاستقلال، صار المغاربة لا يتذكرون من مواقع المشرق العربي إلا مكة، و فقط خلال أوقات و مواعيد الصلاة لمن يؤديها، أو عند حصول النية لديهم لأداء ركن الحج حينما يستطيعون إليه سبيلا.
صحيح أن المغرب وقع في “حماية” الأجنبي، لكن الأمر ذاته كان حالة متميزة، فالبلد لم يعرف حالة احتلال على يد دولة واحدة، بل تعددت القوى الاستعمارية الراغبة فيه و تنوعت، كما كان البلد الوحيد الذي اضطرت معه دولتان، مثل اسبانيا و فرنسا، لاستخدام أسلحة كيميائية لاحتواء “الرد الصاعق” الذي صدر عن الريفيين تجاه قوى الاحتلال الأجنبي، و فضلا عن ذلك، فإن الوجود “النصراني” بالمغرب ما كان ليتم إلا تحت غطاء “معاهدة الحماية”، أي أنه كان وجوداً بخلفية ” اتفاقية” تجد “أساسها” في “القانون الدولي”، كما أن هذا الوجود لم يعمر طويلا بهذا البلد، إذ سرعان ما استعاد استقلاله القانوني و الفعلي.
أما حكاية المغرب مع الأتراك فقد كانت دليلا أكثر نصاعة على انفراد البلد بخاصية الاستقلال، فالجميع يدرك أن “العثمانيين”، أجداد هؤلاء، قد ولوا الأدبار عندما بلغوا غرب الجزائر و لم يملكوا الشجاعة اللازمة لانتهاك سيادة البلد، لعلمهم اليقين أن به رجالا أشداء .
بلد كالمغرب، لم يحافظ على استقلاله عن الشرق فقط، بل سعى إلى مد جسور التواصل و التعاون مع عمقه و جذوره الأفريقية، كما كان عليه الحال منذ الأزل، وهو ما استعاده الآن بعد طول غياب، من خلال “العودة” القوية نحو أفريقيا التي حققها للمغرب محمد السادس.
رغم ثبوت واقع استقلال المغرب، بأبعاده الجغرافية و الثقافية، عن بلاوي الشرق و مصائبه، فإن ثلة من “المـــتقّفين” البلداء نصبوا أنفسهم أعضاء في “هيئة استعراب” للمرافعة و ادعاء الانتساب، لغةً و عِرقا، إلى شرقٍ يُسمى عربيا، بل إن بعضهم نصب نفسه ممثلا للإدعاء الإخوانجي و راح يصدر “أحكام التكفير و التغريب و التعريب” في مواجهة إخوان لهم يحملون جنسية هذا البلد و ثقافته الأصلية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ.
مناسبة هذا الحديث ما أثاره الباحث و المفكر الريفي محمد بودهان بمناسبة إحدى الندوات الفكرية المنظمة أخيرا بطنجة، و كان موضوعها “في الحاجة إلى المثقف”، فقد كشف هذا المثقف العضوي عورة المستعربين و أبان مَفاسِدَ ادعائهم الباطل بشأن انتماء المغرب إلى “الحضيرة العربية” و كَشَفَ، بالبرهان القاطع و المنْطق السّاطِع، زيفَ هذا الزعم و تأسيسه على خُرافات القومية العربية و ما تبعها من “شيطنة مقصودة” تستهدف الفعل الثقافي الأمازيغي بكامله، استناداً على “أسطورة الظهير البربري” التي خلق منها المستعربون أكبر كذبة في تاريخ المغرب الحديث، و إذا كان هذا التشريع قد صدر احتراماً لخصوصيات البلد اللغوية و الثقافية الأمازيغية، فإن “العربجيين” المغاربة لم ينظروا إليه من زاوية الخصوصية الثقافية، بل نظروا إليه من منظار “القومجية المستعربة” العاطل عن الإبصار، قبل أن يعلنوا للعموم أن الظهير ما هو إلا أداة لتفتيت الوحدة العربية المزعومة !
لعل أسطعَ دليل قدمه الأستاذ محمد بودهان لدحض مزاعم المسْتعْربين و المُــعرِّبين بشأن انتماء المغرب الأمازيغي للمشرق العروبي، ما أورده بخصوص رحلة بعض “لَمْـتَقْفـين” المغاربة نحو الشرق العربي بغرض التدريس أو “الدرس”، و كيف اكتشف هؤلاء أن عرب الجزيرة العربية لم ينظروا إليهم قطُّ كعرب، بل عَــدّوهُم مجــرد “برابرة” ينتمون لثقافة لا صلة لها بالعربية .
رغم الطابع الموضوعي و “الجاف” لموقف المشارقة مِنّا كمــغاربة بخصوص انتمائنا لثقافة اسمها الأمازيغية، فقد كان أيضا صادما لــ”لَمْتَقْفين” المغاربة و جعل منهم، بعد مراجعة نقدية لموقفهم العروبي، مثقفين حقيقيين نحن في أمس الحاجة إلى أنــوارهم…