“ولاد الشعب ف الزناقي”

جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( آراء ) 

قبْلَ شهور معْدودة، و في عهد حكومة السيد بن كيران الأولى، أُعْلِنَ للعُموم أن الدولة ربَّما عقدَت عزْما على “ترشيد” نفقاتها و ضبط موازنتها العامة منْعاً للتبذير المُسْتَنْزِف لمواردها الضحلة، و كما يبدو ، من خلال الظاهر، فإن حكومة الطبيب النفساني العثماني مستمرة في نفس النهج المرسوم، و لذلك فقد اتجهت، في سياق تنزيل الأهداف “المُختارة” بعناية “رشيدة”، نحو إلْغاء قاعدة مجّانية التعليم و إحْداثَ رُسوم مالية يؤديها الرّاغب في ولوج المؤسسات التعليمية التأهيلية العمومية أو يدفعها من ينوب عنه، أي بمعنىً أكثر وضوحا: ضمان مساواة “فِعْلية” بين صنفي التعليمين العمومي و الخصوصي، إذ لا يُعقل، بحسب مَنْطق الدولة الحاكمة الداعي للمساواة و تكافؤ الفرص، أن يؤدي بعض الناس أتعابا باهضة مقابل الحصول على التعليم في مدارس التُّجار، و في الوقت عينه، يستفيد فِتْيةٌ آخرون من تعليم “راقٍ” و مجاني في مدارس الحكومة دون أداء فلس واحد.

بالمناسبة، تحْضُرُني الآن شعاراتٌ كان يرفعُها طلابُ الجامعات و تلاميذُ الثانويات، في فترة الثمانينات و التسعينات، شعاراتٌ كانت تَصِف التعليم المغربي بِنَعْتِ الطّبقية و تسْتنكر وضْعَ واقع “أبناء الشعب في الزناقي”. في تلك الفترة، التي اتسمت بوتيرة نِضاليةٍ مُـتّقدة، لم تَجْرُؤ الدولة، رغم برامج “التقويم الهيكلي” المنْسوبة لصُندوق النَّقد الدَّولي، على المَسّ بـ”قاعدة المجانية”، و الحالة أن التعليم آنذاك كان يعيش أحْلى أيــامه، على الأقل بمنظور قدماء المُتمَدْرسين و قدامى المعلمين.

الآن، بعد أن أُنْفِقتْ أموالٌ لا تُحْصى من إيرادات الخزينة العامة، بعضها في نفقات التسيير، و أُخْرى في تَغْطية تكاليف برامج سُمِّيـَتْ “استعجالية”، و بعد أن اتّخذَ التّعليمُ المغربي لنفسه مَقْعداً في الحضيضِ الأسْفل، انتبه الحاكمون فجأة إلى ضرورة مُساهمة أولياء “زبناء” المدْرسة العمومية في “تنويع موارد التعليم المالية” حتى يتسنى للدولة تعميمه.

في الواقع، قد يُجْهِدُ الواحد منّا ذهنه و يرهقه قبل أن يجد تفْسيراً مقبولا، و لو بعد جُهدٍ جهيدٍ، لقرار الدولة الاتجاهَ نحو إقْرار إلغاء “المجانية التعليمية”، لكننا، حتماً، لن نعثر على تبرير معقول لإلْغاء مبْدأ دستوري الجديد، يربط المسؤولية بالمحاسبة، فكيف يُعقل أن تُنفَق المليارات من أموال دافعي الضرائب في برامج “سريـالية” و مُخططات خاوية ما أنزل الله بها من سلطان و لا بيان، بحجة إنجاز إصلاحٍ موعودٍ للتعليم، و يؤدي ذلك إلى كله إلى نتائج كارثية، بالمفهوم الجنائي للكلمة، ثم لا يُسْألُ أحدٌ، لا أمام محاكم المملكة و لا أمام مجالس نيابية.
لقد أودت سياسات لاشعبية، لا ديموقراطية و لا وطنية بحياة التعليم العمومي المغربي، و انتهى به المطاف ليُصْبح مسْخرة حقيقية بين الأمم، و في النهاية، تُعلن الدولة، “غير العميقة”، بعد تفكير لا يبدو “عميقا”، نيتَها في اسْتيفاء “أتعابها المُستحقّة” من “المُستهلكين”، حتى توفِّر للمُرْتفقين خِدمة التعليم العمومي !.

الحقيقة أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من اليوم الذي يُعرضُ فيه المسؤولون عن الحالة المزرية للتعليم أمام المُحاسبة، بعضهم، مُحاسبةً سياسية أمام المجالس المدنية المنتخبة ديموقراطيا، و بعضهم، و هذا هو الأهم، مُحاسبةً جنائية بتهمة إتلاف أموال عامة دون مُسوّغٍ شرْعي، و رَدْعهم بعُقوبات سالبةٍ لثرواتهم المتراكمة دون سبب شرعي و مشروع، و سالبة أيضا لحريتهم، غير المعقولة، في تبذير و سرقة أموال الشعب، أما ما دون ذلك، فلا يعْدو كوْنه مجرد تكريس للشعار الذي رفعه “أوطم” منذ عقود: “هذا تعليم طبقي ولاد الشعب في الزناقي”.. .

 

Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول اقرأ أكثر