الجــهوية البلْهـــاء !
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( اراء )
وإذا كانت كثرة الأحاديث، التي تعددت وتشعبت عن الجهوية كمفهوم، يعدها البعض مظهرا من مظاهر الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر بهذا البلد، فإنها، في اعتقاد آخرين، تعد أيضا مظهرا من مظاهر “المركزية” وامتداداتها المتشعبة، حيث تبدو هذه المركزية واضحة في خطابات “المتكلمين الجدد” عن الجهوية، وفاضحة لتبعية النخبة المثقفة، للخطاب المركزي حول الجهوية، وذلك من عدة أوجه، لعل أبرزها كون هذه النخبة المزعومة، التي صامت عن الخوض في شعاب الجهوية دهرا طويلا، قد أفطرت ذات صباح، عندما صدر الإذن من المركز بالإفطار، لتجد النخبة نفسها وقد امتنعت عن الإمساك عن هذا الحديث المُرَكَّز عن الجهوية و ألاعيبها.
ولعل من دلائل تبعية النخبة الواهمة للمركز الحاكم في موضوع الجهوية استمرار “المتكلمين الجدد” في وصف بعض المدن المغربية، كوجدة وفيكيك والراشيدية، ب “البعيدة “، فعن ما ذا يا ترى هي بعيدة ؟ أكيد في نظر هؤلاء أنها بعيدة عن العاصمة الرباط، ما يعني في المحصلة أن نخبنا الواهمة لا زالت تكيل بمكيال المركز في تحديد بعد المسافات، ليس بين المدن وبعضها البعض، أو بين الجهات ذاتها، بل بينها مجتمعة وبين مدينة واحدة هي الرباط، وهي بالمناسبة المدينة التي يحمل معظم المتحدثين الجدد رقمها المميز على لوحات تسجيل سياراتهم .
الحقيقة أن التبعية للمركز ليست سمة “النخب المثقفة ” فقط، بل هي أيضا صفة لعامة الناس، ما دام معظمهم لازالوا يتحدثون عن الرباط والدار البيضاء، واصفين إياهما ب “المدن الحقيقية “، وفي ذات الوقت ينفون صفة المدنية عن باقي مدن المغرب.
الواقع أن التبعية للمركز، عندما تتبناها العامة، فمن الصعب على النخب أن تخالف رأي العامة، إذا كانت نخبا حقيقية غير مزيفة، لكن يبدو أن “نخبتنا ” المحكومة بردود الأفعال لا بالأفعال والمبادرات، مستعدة لمناقضة نفسها في سبيل الدفاع عن المركز، وهذا ما تنبه له الطالب الأميركي جون واتربوري حينما وصف نقاشات النخبة السياسية المغربية بأنها ” بيزنطية” في كتابه الشهير ” الملكية والنخبة السياسية المغربية”.
إن الجهوية كمفهوم يقع حتما بين علم القانون و علوم السياسة، لا يمكن أن يجد له موطأ فعل حقيقي بالمغرب دون تحقيق مراجعات فكرية و نظرية، مراجعات يساهم في إحداثها علماء التاريخ الانساني و العلوم الاجتماعية و فقهاء القانون و السياسة ممن ينتمون للمدارس الأوروبية العريقة و الحديثة على حد سواء، و دون ذلك، فلا شك أن المغرب، وهو البلد العريق الذي يملك تاريخا سياسيا اتسم بالامتداد التاريخي، سيظل في محنة فقهية تمنعه من إبداع مفهوم جديد للجهوية، مفهوم تحضر فيه الأبعاد الثقافية و الاقتصادية و اللغوية بشكل يحقق الغاية المُثلى من شكل الدولة كتنظيم، و هي ضمان الأمن و العدل و المساواة للجنس البشري، مساواة تضع نصب عينها التوزيع الأفقي العادل للثروة.
إن الحديث المزمن عن الجهوية، و هو حديث أصاب النخب السياسية والثقافية والقانونية، و الاقتصادية أيضا، لا يمكن أن يؤدي، و مستوى النقاش “النظري” القائم بالمغرب على هذه الحال، في نهاية الأمر إلا إلى بزوغ نظرية خرقاء في الفقه الدستوري و السياسي، نظرية قد تتحدث ربما عمّا سيعرف في يوم، لعله قريب، “الجهوية البلهاء” ! ..