“النقل المزدحم”
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( النقل )
أواخر التسعينات، تعرفت بطنجة على مدرس ساقته الأقدار للعمل في ضواحي المدينة، و كان شابا قد شرع بالكاد في الاستمتاع بمباهج مدينة هرقل، بعد أن قضى ردحا من الزمن في غياهب و ظلمات البادية، لكن، لسوء حظه، لم يُقدر له الاستمرار في هذه المتعة المدنية إلا أشهرا معدودة، فقد رمت به قرارات التعيين إلى أبعد مدى من الحاضرة، و حدث أن سألته يوما عن وسائط النقل التي يمتطيها ليبلغ مكان عمله ليخبرني أنه يعاني أشد المعاناة حين ينحشر، مع باقي الممتطين، في دهاليز حافلة أطلق عليها، من باب التلميح المتندر، اسم “النقل المزْدوح”، وكان بذلك مُعبِّراً عما يتعرض له طوال سفره من صُنوف “الزَّدْح” و ألْوان الرّفس.
لقد كانت طنجة، أو “المدينة العالية”، على الدوام محجًّا مفضلا لسائر أجناس الناس، أجانب و مغاربة، عجما و برابرة، فقد عرفت وضعا دوليا استثنائيا مكنها من الترقي في ساحات البُنى و العمران و في سائر ألوان الإبداع و الأفنان. فصارت، بسبب هذا الوضع المميز و البهيج، قبلةً للجميع، أثرياء و متسكعين، مثقفين و منكوبين، أدباء و أميين، ساسةً و متمردين.
بعد أن فقدت المدينة وضعها “الحــر”، توالت على ساكنتها مشاريع التهيئة الحضرية و برامج التنميق الحضرية، في عهد المسلسل الانتخابي، و استبشر الناس خيرا بآخر برنامج أعلنته السلطات، برنامج أطلق عليه مبدعوه اسم “طنجة الكبرى”.
لا شك أن المدينة قد كبرت و اتسعت، لكن كِبرها لم يتحقق بفضل البرنامج المعلن، وهذا ليس من قبيل أسرار الدولة، بل بمنة و كرم البناء العشوائي، أو “العَشْوي”، نسبةً للعَشاء، حسبما نُسِب، ذات جلسة جماعية، لواحد من “المُنْتَخَبين، فحيثما وليت وجهك ألفيت ما لا يسر الناظرين.
لقد استمرت “المذاهب العشوائية” في تدبير شؤون المدينة، بل إنها، كما يبدو، توسعت و تمددت لتشمل مواضع أخرى غير “البناء” و “التعمير”، فقد انتقل وباء العشوائية ليسود مناحي الخدمات و التجارة و النقل و الزبالة، و هكذا تحولت المدينة الدولية إلى حاضرة أسوء من قروية.
لقد استحالت أحياؤها أسواقَ عشوائية، لا تخضع لقانون و لا لضابطة، فانتشرت لتحتل الشوارع و الأرصفة و العربات و سائر الأمكنة، و هي في مأمن من غرامة أو متابعة أو أي رقابة صحية أو ملاحقة ضريبية.
أما قطاع النظافة، فقد صار في تمام المسخرة، إذ قسمت المدينة لميمنة و ميسرة، و أوكلت التنظيف لشركات مُفوضة، و استعانت في سبيل ذلك بفرقٍ من الشغيلة، تنتمي في دائم الأوقات و الأزمنة، و سائر المناسبات و الأمكنة، لمجالس “الإنعاش الوطنية”.
أما خدمة النقل بالمدينة فقد صارت في سيبة عارمة و فوضى دائمة، فحالة العربات الناقلة أصبحت في أسوء صورة، و معظم سائقيها في حال إنكار لضوابط الحيطة بغية تحقيق السلامة، و أغلبهم في حال فقدان لقواعد اللياقة، وانتهى الأمر بالنقل، خليطا، بلغ من التجانس أعلى درجة، بين عربات النقل في الحاضرة، و قريباتها ممَّنْ نِلْنَ شَرفَ الإركاب من البادية، و لا ينافسهن في سوقهن الجديد سوى ناقلات العَمالة و الشِّغيلة إلى حيث تُلفى المناطق الصناعية، أو ربيباتها من ذوات العجلات الثلاثية، و هكذا صارت “القرويات” يحضين في المدينة بأعلى منزلة و أغْفَلِ رقابة شُرَطية. فلعون السائق كامل الصلاحية، في المناداة على الركاب بكل ناحية، وله الاختيار بين مغوغة و السانية، أو المصلى و الساحة الجديدة، وغيرهما من المواقع و الأمكنة.
لعلها عربات ممن انطبقت عليهن تلك قولة صديقي حميدٍ، وهو من الثقاة البررة، ونسبتها له لازمة، حين وصف أدوات النقل بكونها مزدوحة قبل أن يستدرك قائلا بل هي مزدحمة. ..