“لجان التفتيش”

جريدة طنجة – عزيز كنوني ( .. ) 

لَعلَّ الحرب المعلنة على التطرف بكل أشكاله، هو ما دفع وزارة الداخلية المغربية إلى اتخاذ قرار لا يمكن أن يوصف إلا بـ “المفاجئ” حين أصدرت الأوامر — لأننا بلد يُسير بالتعليمات والأوامرــ ، إلى الولاة والعمال ورجال السلطات المحلية، بتشكيل “لجـان تفتيش” تتكفل بالبحثـ في جميع المكتبات عبر تراب المملكة، عن “كتب دينية تكفيرية وشيعية، بغاية حجزها ومصادرتها، واتخاذ اللازم في حق مروجيها.

“لجان التفتيش” ملزمة بإجراء مسح شامل لجميع المكتبات وما يوجد بها من مؤلفات “مشبوهة” من تلك التي تدعو لمذهب الشيعة أو تحمل “فكرا متطرفا” يزكي العنف و الإرهاب .

قرار الداخلية مقبول، ومفهوم، وحكيم، لأنه يدخل في إطار الحرب التي انخرط فيها المغرب إلى جانب البلدان المحبة للسلام والأمن والاستقرار والتسامح والاعتدال، ولكنه قابل للنقاش على كل حال، خاصة في ما يتعلق بتركيبة “لجان التفتيش” التي يبدو أنه عهد بها إلى السلطة المحلية ووزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية ووزارة الثقافة ، ولا يوجد ما يمنع من الاعتقاد بأن هذه الجهات يصعب التأكد من أنها تمتلك مفاتيح فهم مضامين أمهات الكتب التي تتناول الفكر الديني أو العقائدي أو المذهبي أو الفلسفي، من باب الفهم والإدراك و النقد والتحليل والتأويل، لتخلص إلى القول بأن بعضها ينتمي إلى “فصيلة” الكتب المعنية بـ “تعليمات” وزارة الداخلية، كمقدمة للتخلص منها وربما من أصحابها ، بحجة الدعوة إلى التطرف والعنف ومذاهب أخرى غير المالكية الأشعرية التي يعتقد بها المغاربة عامة، والتي قامت عليها عقيدة أهل السنة والحديث، وأجمع عليها أئمة المذاهب الأربعة، أبو حذيفة النعمان بن ثابت (699 ـ 767)، ومالك ابن أنس (715 ـ 795) ومحمد بن إدريس الشافعي (766 ـ 820) و أحمد بن حنبل (780 ـ 855).

وتعتبرالأشعرية لصاحبها الإمام إبو الحسن الأشعري (874 ـ 936)، منهجاً وسطاً بين دعاة العقل المطلق وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره، رغم أنهم قدموا النص على العقل، إلا أنهم جعلوا العقل مدخلاً في فهم النص، عملا بدعوة القرآن إلى التدبر و التفكير.

فإذا كان القصد محمودا، من “تعليمات” الداخلية، حماية لسلامة البلاد والعباد من كل عمل مشين، مخل بسلامة الإنسان المغربي، فإن وسيلة الوصول إليه ، كما وصفتها “التعليمات” ، لا تبعث على كامل الاطمئنان، إذ لا يختلف اثنان في أن موضوع “التفتيش” عن القول المذموم، في ما يخص حماية العقائد والمذاهب التي أجمعت عليها جموع العموم، يتطلب أخذ احتياطات واسعة، حتى لا نقع في المحظور وعلى رأس تلك الاحتياطات ، ضرورة اختيار العلماء المختصين في أمور التفسير والفقه والحديث، المتفقهين أيضا، في شؤون السياسة، المتتبعين لها، والعارفين بخباياها وما يقرأ حولها، بين السطور، حتى لا “تخفى عليهم خافية” وينجزوا عملهم بمقدرة ومسؤولية عالية، وفق الحديث المسند الصحيح : “لا ضرر ولا ضرار” !

ذلك أن التقرير في نوعية الكتب التي تعرض على اختيار القراء، أمر يدخل في مجمل حقوق الانسان، وفرض رقابة عليه، يمس بالحق في المعرفة، إلا أن من أوكد واجبات الدولة حماية المواطن “من كل ما من شأنه” أن يزعزع عقيدته، أو يؤثر سلبا على توازنه الفكري والروحي، أو يدفع به إلى التهلكة التي نهانا الله عنها، حين أمرنا بالمحافظة على الضروريات الخمس: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ.

وهكذا نكون قد قطعنا الطريق عمن، بحسن نية أو بسوئها، سوف يربط لجان التفتيش التي أمرت بها وزارة الداخلية في إطار حربها “المشروعة” على المتطرفين و”الكتب التي تدعو إلى التطرف “، وبين لجان التفتيش التي أنشأها فرناندو 2 وإزابيلا 1، (1478)، بعد تسلمهما مفاتيح غرناطة، واندحار آخر ملوك المسلمين، أبي عبد الله “ُEl Chico” ، (1492).

ولا شك أن اللجان التي سيشكلها ولاة وعمال الأقاليم في إطار “لجان التفتيش” “الوطنية” عن الكتب الدينية التكفيرية والشيعية، عبر “مسح” شامل لجميع مكتبات البلد، سوف تعتبر الكفاءة العلمية، والنزاهة الفكرية والأخلاق الاسلامية الحميدة في التعامل مع المكتبات وأصحابها الذين يجب “إقناعهم بالقضية” وكسب تعاونهم ومشاركتهم بل وانخراطهم التام في هذه العملية التي، وإن ارتكزت على أسس ودوافع معلومة، إلا أنها تشكل “إدانة” للسياسات العمومية منذ الاستقلال، في مجالات التعليم والثقافة، إذ الأسلمُ أن نقوي لدى مثقفي البلد مناعة فكرية قوية ضد كل ما يسئ إلى البلد من أفكار وعقائد ومذاهب لا تخدم مصلحة الوطن والمواطن، بدل أن نحول بقوة التعليمات ولجان التفتيش، بينه وبين الكتب المعروضة علنا على القراء..

Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول اقرأ أكثر