“الدولة ثقافة”

جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( الدولة .. ) 

على مرَّ حقب التـاريـخ الحديـث، كـانت “الدولة”، باعتبارها مفهوما قانونيا و سياسيا، على الدوام مـوضـوعـًا أساسيا ينظرُ له المفكرون بعناية و تروٍّ، كما كانت كذلك، و مازالت مادة دراسية، في كليات علوم القانون و العلاقات الدولية، فقد اجتهد فقهاء القانون في إبداع التعاريف و صياغة المفاهيم حول هذا الكائن المسمى دولة، واجتهدَ آخرون في دراسة الروابط القائمة بين هاته الكائنات المعنوية” و ما إذا كانت تلك العلاقات تقوم على قـاعدة التعـاوُن و التكامل أو على قـانـون الصـراع و التَضـاد.

لكن يبدو أن القليل من هؤلاء من انتبه إلى أن تلك العلائق في جوهرها، إنما يُقصد بها تلك القائمة بين دول حقيقية على أرض الواقع، أي تلك الدول التي تتمتع، إضافة لكافة الشروط الشكلية و الموضوعية لقيامها، تتمتع أيضا بقوة عسكرية، علمية، اقتصادية و بشرية. و إذا كانت هيئة دولية كبرى مثل الأمم المتحدة قد تقبل في “حضيرتها” كل من توفرت فيه شروط العضوية الشكلية، فإن الواقع يميز دوما ما بين دول قائمة حقيقةً و بين تلك التي لا تحمل من الدولة سوى الاسم و العَلَم.
أتذكر من أقوال أحد رجال الريف أن حكومة الإسبان، حينما أشرفت مرحلة “حمايتها” للمنطقة “الخليفية” على نهايتها، أستدعت قادة الريف الكبير إلى عاصمة المنطقة تطوان و اقترحت عليهم، عبر موفدها، الكولونيل آلبا، إمكانية إقامة دولة مستقلة بالمنطقة، لكن المفاجآة أن قواد الريف رفضوا الفكرة، ربما ليس بسبب ولائهم للسلطان، بل بسبب رؤيتهم، فقد رأوا أن دولة “حقيقية” لا يمكن أن تقوم فقط على موارد نباتية كالتين الشوكي، فالأمر، في اعتقادهم، لم يكن مُزحة و لم يكن فكرة جميلة.

قبل أزيد من عقدين، و كنت آنذاك تلميذا ثانويا، التقيت صدفةً أحد زوار الريف من الإسبان، و قدم لي نفسه صحفيا، فكانت بالنسبة لي فرصة لتجاذب أطراف الحديث مع هذا الزائر الاسباني و تذكيره بأن للمغرب جولات سيخوضها ضد اسبانيا لاسترجاع ما لازالت تحتله من مواقع، متحمسا أكبر بحماسة “الدّون كيخوطي” و مستشهدا، في “خطابي” بمعارك أنوال و دهار أوبارّان، و بأننا قادرون مرة أخرى على إلحاق الهزيمة بهم، لكن الصحفي الأندلسي، وكان يحمل اسم بيذرو، لم ينفعل بل تبسم ضاحكا من قولي، و أوضح، بتواضع غريب، أن اليوم ليس كالأمس و أن “الخيرتيتو” الاسباني يملك قوة لا تقهر، لكنه لم يكتف بذلك، بل شرح لي أيضا كيف أن الحروب “الحقيقية” ستكون حروبا اقتصادية، و لأني لم أكن قد تخلصت بعد من خطابي “الثوري”، فقد كنت في حاجة إلى تصحيح رؤيتي و تقويمها بشكل أكثر ملاءمة للحقائق و الوقائع المادية.

قبل أيام تعرض الرئيس اليمني السابق علي صالح لعملية اغتيال يندر مثلها في العالم الحديث، فقد شُجَّ رأس الرئيس بشيء تجهل طبيعته و ما إذا كان قذيفة صاروخية أو مجرد إزميل فولاذي، و لم يكتف “الحوثيون” بذلك الإنجاز النوعي بل وضعوا الهالك في ملاءة ملونة و راحوا يأرجحونه ذات الشمال و ذات الجنوب.

و قبل يومين، أو أقل، أعلن ترامب رئيس دولة أمريكا أن القدس عاصمة لاسرائيل و أنه سينقل سفارة بلاده إليها في غضون أشهر، و لم يعترف في ذلك لا بمزاعم العرب و المسيحيين و لا بادعاءات الملحدين أو البوذيين، لقد تصرف ببساطة، لأنه رئيس أقوى دولة في العالم.

إن الدولة ليست مجرد إجراءات اعتراف أو برلمانا و دستورا، إنها ثقافة .

Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول اقرأ أكثر