“مَحْبَس عُكاشَة”

جريدة طنجة – محمد العطـلاتـي ( احتجاجات الريف) 

قبل أسابيع معدودة اتّخَذ الفعـل الاحتجـاجي الكثيف في الريف المُسَمَّى حـراكــًا، منحى تصاعُديا و أكثر اقتـرابــًا، عبر تفاعُـلات المشـاركين فيه و قادته الميدانيين، من الإفصاح عن هويته السياسية التي يبدو أنها في المراحل الأخيرة من تشكل قناعاتها الفكرية و المذهبية.

لقد شكَّلَ مَصـرع السَمَّـاك الـراحل “محسن فكري” في نـاقلـة قمـامـة، لسـوء الصدف، مناسبة نَدُرَ حدوث مثلها في تاريخ الريف الحديث، فانتظم الناس بذلك في فعل نضالي مُعاصر، من حيث أدواته و شعاراته، أو أشكاله التعبيرية المُجدِّدَة.

لقد اتَّسَم الاحتجاجُ، في مراحله الأولى، بمطلب عنوانُهُ الفريد مُعاقبة من تسبَّبَ في مقْتَل السمّاك و إحالتِهم على العَدالة، لكن المطالب ستعاودُ الظهور في شوارع المدينة تحت شعار مركزي هو “رفع الحكرة و العسكرة”.
لقد راكم الريفيون في ذاكرتهم الجمْعِية، طيلةَ العقود التي أعقبت الاستقلال، مُخَلفاتٍ سيئةً عن سلوك السلطة الحاكمة تُجاههُم، فخلال أواخِر الخمسينات قام الجيشُ بحـمْلة قمـعٍ دامـية استهدفتْ بقـايا جـيش التحرير بالشمال التي ثـارت ضد محـاولات تَسَلُّط “حزب علال” على رقاب المغاربة، وفي فترة لاحِقة كـرَّر الجيشُ هجومه الدامي ضد انتفاضة الريفيين، و تسبَّبَ في قمعٍ دامٍ طالَ أبْناءَ الريف الراغبين في تحقيق الانْعتاق من ربقة الحُكم الظّالم .

قد تتشابه المِحنُ القاسية التي تكالبت على الشعب المغربي في كل أنحائه، لكن أهل الريف كان لهم منها الحظُّ الأوْفر دائماً، وفوق ذلك نالوا أقساطاً مُشْبِعةً من التُّهم و الإساءات الأدبية، فبعد حمْلة العَسْكر أواخر الخمسينات، وُصِف أهالي الريف بـأنهم “مساخيط سيدنا”، و هو وصفٌ أدْرَجَهم ضمن “المغْضوب عليهم” من سلطة المركز السلطاني.

و بعد انْتِفاضَة 13 يناير 84، التي صادفت يوم الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة، قُذِفَ الريفيون بنعت “الأوباش” الذي اجتهد الحسن الثاني في إخراجه للتداول و توظيفه في التعبير عن موقفه الانفعالي ضد الريف و أبطاله.

بعد مرور أزيد من ثلاثة عقود على انتفاضة الخبز، اعتقد الريفيون أن الدولة، خلال “العهد الجديد”، ربما انخرطت فعليا في مراجعة سياستها تجاه الريف الكبير، انخراطٌ مثَّلَهُ الملكُ محمد السَّادِس من خِلال مُبادرات شخصية استهدفت تحقيق أجواء ملائمة تُساهم في استكمال عناصر “المصالحة الأدبية” بين المركز الحاكم و الريف المهَمَّش.

لكـن الأمـور لم تجْـرِ بالشَّكْلِ المأمول، ففي الوقت الذي اتخذ فيه العاهل مبادراتِه الأخلاقية تجاه جهة الريف التاريخي، انْفَصلت “النخب السياسية و الإدارية” المزعومة للنظام عن الحقيقة الواقعية، و أعادت، من خلال بُؤْسِها الفكري و اعْتيادها قضاءَ حاجاتِ النَّاسِ بتَرْكِها،أعادت إنتاجَ مقولات لا تُسْندها ذرَّةٌ واحدة من الحقيقة، فقد أجمعت هذه “النُّخب المُتَطفِّلة” على كَيْل الاتهامات للرِّيف بالتأْسيسِ لانْفِصالٍ مزْعوم، طاعنةً بذلك في وطنية أهله و انخراطهم الأزلي في الصراع من أجل إحقاق الحق و إزهاق الباطل.

لقد عرَّت المواقفُ الحزبية المُعلنة تجاه الريفيين، و المحكومة بإرثٍ سَلَفيٍّ بئيس، حدودَ و ضحالةَ مشروعها المزعوم، و عجزها الموضوعي عن مُواكبة التطوُّر الفِكْري و الحُقوقي الذي راكمهُ الناس، و أن هؤلاء الشباب ليسوا مجرد مراهقين طائشين، بل هم قاعدةٌ بشريةٌ تنكرَّت لها أحزابُ الريع، فقرَّرَت، من تِلقاء نفْسها، و دون وَساطَةٍ من هؤلاء الأعْيان المُترهِّلين، فَتْحَ أُفُق جديد عُنوانه هو الإعراض عن “الحوانيت السياسية” و قادَتِها المُصابين بِداء “الانْفِصـال المادي و الثـقافي” عن قضايا الناس. و هي، و لا شك في ذلك، تضَعُ، من خلال شبابها المُتَّقِدِ حيويةً، أُسُسَ “إطار سياسي غير تقليدي” يُفْتَحُ عَبْرَهُ المجال لانطلاق جهوية حقيقية و متقدمة.

يذكُر التاريخُ المُعاصر أن الفَصائِلَ الفلسطينية، خِلال وُجودِها في مملكة الأُرْدن، كانت دائمة المُناوشات مع قوات الملك حسين، و في واحدة من هذه ، يروي “بطلها” جواد أبو عزيزة، قائد “الكفاح المسلح”، كيف أنَّهُ لم يفْهم ما يعْنيه اصطلاح “الشريف” في القاموس المحلي، و كيف تعامل مع أحد رجال الدولة السامين حين عرَّفَ نفسه، (أمام دورية فلسطينية في الأراضي الأردنية!) بكونه “الشريف فواز”، فقد عرَّفَ القائدُ الفلسطيني نفْسَه أمام الموقوف، بكونه “الشريف سهيل”!

رغم الجوار، لم يكن الفلسطيني على دراية بالثقافة اللغوية المحلية، لكنه أدرك ذلك بعدما قرر الملك حسين طرد الفصائل الفلسطينية من بلده حين انعدمت وشائج الاتصال بينهما.

إن الجهل بالخصوصيات المحلية للجِهات، لغةً و ثقافةً، قد يجر البلد نحو انحرافات لا تخدم الرهانات التي تضع في صلب اهتمامها قضايا التنمية المستدامة و حِفْظ الكرامة الآدمية، كأساسٍ لا بديل عنه من أجل الانتقال بالريف من مرحلة “النمطية” و “المُحاصَرة” نحو مرحلة “التجديد التنظيمي” و الفكري، أو نحو “أصالة فريدة و مُعاصرة جذرية”. و هو ما لن يتحقق إلا بالإفراج عن مُعْتقلي “محبس عكاشة” الأبرياء..

 

Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول اقرأ أكثر