ظاهـرة الغِـش ..!

جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( الغش ) 

يُعد الغِـش ظـاهــرة من الظواهر السلبية المنتشرة منذ القدم في جميع المجتمعات، إلا أنها بدأت تتزايد بشكل كبير؛ حيث أخذت تتنوع مظاهرها وأشكالها، وهي تدلّ على اختيار الإنسان لسلوك من السلوكيّات المنحرفة وغير الأخلاقية ، التي تُنافي جميع مَعـانـي الإنســـانية التي تدعو إلى الصدق في الأمور كُلّها، ذلك أن الغش يعود على الفرد والمجتمع بأضرار كبيرة هم في غنىً عنها، وهو سلوك غير مرغوبٌ به في المجتمع، ويسعى الجميع لمحاربته ، ومحـاولة الحد من انتشـارهِ، فما معنى الغش ؟ وما هو الغش الذي نهى الشرع عنه وحذّر من التعامل به؟ وما هي مظاهره والأسباب التي دعت إلى وجوده وانتشاره؟ الغش هو نقيض النُصح ، وهو نوع من أنواع الخيانة ، ذلك لأنه إخفاء للواقع وإظهار لخلافه بحيث لا ينطبق عليه، ويتحقق الغش بـإخفـــاء العيب أو تُـزيينه بحيث لا يتعرَّف عليه الطرف الآخر .

و عَـرفـه صـاحـب التنبيـهـــات بقـولــه ( الغِـشُّ : كَتم كل ما لو علمه المبتاع كرهه) وقال المناوي في تعريفه (الغشُّ ما يخلط من الرَّديء بالجيِّد) .

ومفهوم الغش مفهوم واسع ، فهو ليس فقط في البيع والشراء، بل هو أشمل من ذلك وأعم ، فكل ما لم يصدق فيه المرء من نية أو قول أو عمل فهو غش .

لذلك عده الإسلام كبيرة من الكبائر، وحرمه أشدَّ التحريم ، وجعل مقترفه مُوجِبٌ لمقت الله ، جالب لسخطه ، سبب في عقوبته ؛ إنه أكل للمال بالباطل ، قال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) . فنهى سبحانه عن أكل الأموال بالباطل ، والغش من الباطل ، وبيَّن أن التجارة لا تحمد ولا تحل إلا إن كانت عن التراضي من الجانبين، والموافقة من الطرفين، وذلك لا يكون إلا بالصدق في البيع ، والبعد عن الغش، والسلامة من الكذب، وإيفاء الكيل والميزان قال تعالى﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾.

وكما اعتنى الإسلام بتوفية الكَيْلِ والميزان حذر من التَّطفِيف؛ لأنَّ التَّطفِيف فيه دلالة على أن فاعله قد تأصَّلت فيه مساوئ الأخلاق من غِشٍّ وخداع وخِيانة، قال تعالى﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾.

إن أعظم أنواع الغش أن يغش الإنسان نفسه فلا يصدق لها في النصيحة ، ولا يقيمها على الدين، ولا يهذبها بالشرع ، ولا يزكيها بالهدى، فالذي غش نفسه مصيره الخيبة ، وعاقبته الخسران( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .

ويليه الغش في البيوع والمعاملات: هذا ميدان الغش الواسع، ومجاله الفسيح ، فأرباب التجارة ، وأصحاب الحرف وذوي المهن ، ومُلاك البضائع ، قليلٌ منهم من يصدق في تجارته ، وينصح في بضاعته ، ويخلص في مهنته؛ أما الأغلبية الساحقة فغش وخداع ، وزور وبهتان ، وكذب وخيانة ، وبخس وتزوير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم(المسلم أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم بــاعَ من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له) ، ويبين صلى الله عليه وسلم أن كتم العيب في السلعة والكذب في البيع محق للبركة قد يربح المرء، ولكنه ربح منزوع البركة، قليل الثمرة كبير الإثم ، فيقول صلى الله عليه وسلم ( البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإنْ صدق البِّيعان وبيَّنا بورك لهما في بيعهما؛ وإن كتَما وكذبا فعسى أن يربحا، ويمحقا بركة بيعها) ، وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها بصَّر عيوبها ثم خيَّره ، وقال: إنْ شئت فخذ ، وإنْ شئت فاترك ، فقيل له : إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع ، فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم) .

ومن صور الغش في البيوع : إنفاق السلعة بالحلف الكاذب ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم) ، فذكر منهم( رجلا باع رجلا سلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدَّقه وهو على غير ذلك( .

ومن الغش : دسُّ الرديء في ثنايا الجيد ، وبيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع والحقيقة ، وكذلك إخفاء العيب الموجود في السلعة ، فإن باع بيعًا يعلَم أنَّ فيه عيوباً قد لا يطَّلع المشتري عليها إلاّ بعد حين يُعتبر بهذا آكلاً للحرام ؛ لأن الواجب عليه أن ينصَحَ لإخوانه ، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّه لنفسه ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ على صُبْرَةٍ من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال ( يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، مَا هَذَا؟)، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ ( أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ )، ثُمَّ قَالَ( مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) ، فهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم يشمل الغش بكل أنواعه ، وجميع أقسامه . إن التاجر الذي يزيد في السعر من غير مبرر أو يكتم ما في السلعة من عيوب، أو يبخس في الكيل والوزن ، أو يتلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الضرورية يعد آكلاً للحرام.

أما التاجر الذي يصدق في بيعه وشرائه ينال الأجر العظيم والثواب الجزيل، ويكفيه شرفا وفخرا أن ينال الجنة بفضل الله تعالى ورحمته ، فقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ).

ومن صور الغشّ الظاهرة والتي أضحت منتشرة : الغش في الامتحانات ، لقد وصل الحال ببعض الطلاب إلى أن يَستمرئَ الغش، ويراه حَقــًا مُشـاعــًا، وحمًـى مبـاحــًا، ووصلَ الحــال ببعض رجـــال التعليم بسبب ضُعف إيمـانهم وقلَّة إدراكهم، إلى أن يُمْلــوا على التـــلاميذ والطَلَبـة الإجـابــات، أو يعْطوهم الأسئِلة أو قريبا منها، تحت سِتـــار المســـاعدة وا لـتَّيسيـر، وهــو الغشّ الحقيقي بكل معانيه الذي يمثِّل جريمة كبرى في حقِّ المُجتَمــع.

إن المتأمل في عالم الناس اليوم يرى أنه عالم تغيَّرت فيه كثير من القيم الصحيحة ، وتبدلت فيه المفاهيم المستقيمة، عالم سيطرت فيه المادة على نفوس كثير من الناس ، وإيثارُ المال هَيْمَن على قُلوبِهم، فراحوا يجمعون الدّنيا بكل طريق ويستكثِرون منها بأي سبيل، وتساهلوا في جمع الأموال، لا يهمهم حلال أم حرام ، حتى صدق عليهم إخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ )…

Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول اقرأ أكثر