“مجتمع الاستجداء”
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( مجتمع التسول )
لعَلَّ المصـادفات، التي تعـترض المرء في حياته اليومية العادية، كثيرة و متنوعة، رغم أنها تأخذ، في أحوال كثيرة، سِمَة الغرابة و تتَّشِحُ بهالة الطرافة، فيعتبرها الواحد مجرد ملح طعام يؤثث نكهة الحياة و يُتبِّلُ موائدها المبتذلة، لكنها، في حقيقة الأمر، تستحق، فوق اعتبارها كذلك، التفاتةً مُعتــبرة من دارسـي الظواهر السلوكية لبني الإنسان في مجتمعهم المتحول على الدوام.
لعلّ الراصدَ تاريخَ التسول في بلاد المغرب الأقصى، يقف مشدوها و هو يلحظ ما صار إليه هذا “النشاط الإستجدائي”، و كيف تطور ليصبح قطاعا ضخما يحقق رقم معاملات قد يفوقُ ما تحققه المقاولات الذاتية و هي مجتمعة بكثير.
لقد صار التسول عندنا مهنةً حقيقية و حِرْفة معتبرة، تُدِرُّ دُخولاً لا عِلْم لإدارة الجبايات بها، و هذا ليس سِرَّا تعجز العين عن إدراكه و بلوغه، فــهو مشْهور و معلوم، و مُتاح للجمهور و العموم، إلا أن الجديد فيه يبدو جليا بغير التباس، واضحـا دون افْتِـحـاص. فأيْنما ولّيت وجهك استقبلتْك أسرابُ المتسولين ببشاشة، و حيْثما حللْتَ بادَرَتْكَ جُموعُ الشّحّاذين بالمَسْأَلَة، حتى حقَّ فيها قول الشاعر :
اتخذت بيوتَ الله دارَ مَقـامها ….. لكنْ تراها للقُرى مُرتادَة
لكن الشحاذة، رغم اتساع قاعدة أنصارها و تعدُّد جماعاتها، لا يجتمعون على شكل أو طريقة و لا يتَّحـدون حول مذهب أو سُنَّة؛ فقد أبـدع هؤلاء في اتخاذ الوسائل و اعتماد الحيَل، حتى إن المرء يقعُ في حــيرةٍ من أمْرِه و إشكالٍ في شأنه، فأنت ترى الصبيان و الولدان، و الكهول و الشبان، و الذكـور كما النِّسوان، و ذوي الأسمال المهترئة كما لابِســي الكِسوات الجميلة، و إنك لتنبهر من قدرة هؤلاء القوم على التحايل و الظهور بمظاهرَ مُختلفة و صُورٍ متناقضة، فذاك يصطنع اللباقة و تلك تمثِّلُ دوْرَ البراءة، و آخر يدَّعي وقـوعه في ورطة مُدبَّرة و تلك تزعُم إصابتها بعلَّة مُبْهمة، و ذاك يتحلى بأحسن زينة و يتعطَّرُ بأزْكى عِطْرٍ و رائحِة ليوقع في شباكه أسمن ضحيَّة، أما بعد أن فتحت الحدود و انتفت القيود، فقد صارت ضواحي الحاضرة و مراكزها قبلةً لأصناف و أجناس، قدموا من كل الأصقاع و البقاع، فيهم العرب العاربة و آخرون من السّود المستعربة !
لعل الباحثَ في مسائل “المسألة”، المُنقِّبَ في أحْـوال الشِّحاذة ، الفـاحص أهلَ هذه العادة الممنوعة و مُحْترفي هذه البِدْعة المُحرّمة، يقف على حقيقة الواقع المُضَلِّل و كيف يحيا هؤلاء المرتزقة خِفْيةً في بذخ لا يُعْرف، و كيـْف “ينْعَمُ” هؤلاء السَّفَلة بموائدَ لا تُحَـدُّ و لا تُوصَف، حتّى حقَّ فيهم قـولُ الشّاعـر:
وضَعوا الموائدَ كالجبالِ تخالُها ….. تكْفي لجيشٍ جاعَ فيه القادَة.
لقد اختلط الحابل بالنابل، كما قالت العرب قديما، و لعل الوقت قد حان لينظر الناس في وسائل تمنع عنهم الوقوع في حيل المتسولين و ألاعيب الشحّاذين، ولعل إيتاء الصدقة، وهي فرض ديني و سنة محمودة، يستحسن أن تكون لمن لا يطلبها جهرا أو خِفْية، فهو الأولى بها لأن عزته تمنعه..