الدين بين جبروت العادة و حكم المجتمع
جريدة طنجة ـ لمياء السلاوي
لا يختلف اثنان على أن العادة تلعب دوراً رئيسياً في تربية المجتمعات الإنسانية، بل يمكننا القول على أنها البساط الذي تقوم عليه حركات المجتمعات وسكناته، إذ يجد الإنسان نفسه خاضعاً أعمى لإملاءات العادة وسلطتها ومنساقاً وراء كل ما اتّفق عليه العامة وجعلوه منهاجاً لهم في حياتهم، غير أن العادة باعتبارها قوةً تكبح حرية الإنسان المطلقة تصطدم عادة بالدين باعتباره هو الآخر سلطة على الإنسان نفسه، مما يخلقُ له صراعاً مريراً ما بين الخضوع للدين والإستسلام للعادة ومدى تعارضها مع ثوابته ومعتقداته.
وقبل مجيء الإسلام، كانت القبائل العربية تخضع لقانون العادات والتقاليد الموروثة أباً عن جد، وكان التعصب يطبع هذه العادات ويُسيطر عليها، إذ يُعتبر الخروج عنها درباً من دروب الخيانة العظمى وإعلاناً للحرب بين الأفراد وبين القبائل، فكانت العادة تجري فيهم مجرى الدم، ومن الصعب أن تجد أحدهم يخالفها أو يرفضها مهما حصل ومهما كانت قسوتها وبشاعتها، والأمثلة على ذلك كثيرة منها عادة وأد المواليد من الإناث اتقاءً للخزي والعار، وكان هذا العُرف معمولاً به ومتفقاً عليه آنذاك بحيث لا يُلام صاحبه عليه أو تمسّه منه عقوبة، ويستمر الصراع بين العادة والدين ملازماً للإنسان رغم تغيّر الظروف وتعاقب السّنون، فهل تُحرّكك سلطة الدين؟ أم تَغلبك العادة فتُسيطر على تفكيرك وقراراتك؟ وهل تُفضل حسمَ الدين في أمرٍ ما؟ أم قول العادة فيه؟
إن الإنسان باعتباره كائن إجتماعي لا يمكنه العيش بمعزلٍ عن المجتمع، وبالتالي فهو متشرب بعاداته وتقاليده مذ أن رأى النور فيه، ومذ أن شهق أولى شهقاته بين أفراده، فأنت لا تستطيع أن تتكلم مع فتاة وأنت في القسم الأول ابتدائي، ولا هي تستطيع التحدث معك في أي شيء لأن العادة المتوارثة قد أقرنت هذا السلوك بالخجل والخوف، فحرَّمتْ إتيانه، وباعدتْ بذلك بين الروابط الإجتماعية، وأنتجت مجتمعاً منقسماً ومنغلقاً على نفسه، والولد يفضل أن يكذب على معلمه إن سأله عن صلاته هل يُحافظ عليها، ونسي أن الكذب ذنبٌ يعاقب عليه الدين، لكنه تناسى ذلك حينما اصطدم بموقف ربما سيجر عليه تهكّم أقرانه، وقد لا تستطيع أن تمنح درهماً وحيداً لمحتاج هو كل ما جاد به جيبك، خجلاً من نظرات المارة وتندرهم على درهمك الفقير، رغم أن الصدقة أجرها مضمون رغم قلّة قيمتها، مفضلاً الإحتفاظ بدرهمك الأبيض لليوم الأسود ومضحياً ببعض الحسنات العظيمة.
وأنت لا تستطيع أن تكون صديقاً لوالدك تبوح له بأسرارك وتستشيره في أمور دنياك، لأن العادة تقتضي أن يخفض المرء من صوته ويُطأطئ رأسه بمجرد إقبال والده عليه، فترتعدُ أطرافه ويبتلعُ لسانه وكأنه واقف في محاكمة أمام القاضي، رغم أن الدين يحث على مصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف، وإمام المسجد الطاعن في السن المقوّس ظهره بتعب العبادة لا يستطيع أن يفتح المجال لإمام شاب يافع ينوب عنه إن لم يستطع أن يقيم صلاة الجماعة كما يجب، خوفاً من كلام الناس ونعته إياه بالعجوز الهرم العاجز عن إمامة الناس، فهو يُفضل أن يهجره المصلون لرداءة صلاته، على أن يَلين قلبُه لإمامٍ غيره، وقد يُقاتل في سبيل ذلك لآخر رمق، وقد يرتكب جريمة نكراء ويُزجّ به في السجن من أجل مبدئه هذا الذي هو جزء من عادات الأفراد فيما بينهم.
و الإبنة لا تستطيع الزواج بمقدار صداق لا يلائم موقعها الاجتماعي، ولا يناسب اسم عائلتها وصيته، فتفضل أن تتمرد على الدين الذي يحث على الزواج بمن رُضي خلقُه ودينُه ولو قلّ صداقه على أن تُصبح حديث مجالس الناس إن هي أقدمت على هكذا زواج. والمواظب على صلاة الجماعة المتصدر للصفوف الأمامية في الصلوات الخمس تجده غاضباً ساخطاً إن هو حاد عن الصف الأول وموقعه المعتاد في جنبات المسجد، وقد ينهر “محتل” مكانه رافعاً صوته عليه متناسياً أن ذلك عمل مكروه شرعا، فهو يفعل ذلك خوفاً من كلام المصلين ولمزهم بكونه غاب عن الصف الأول ولعله بدأ يتكاسل في العبادة وشيء من هذا القبيل، فتكون بالتالي عبادته لإرضاء الناس والحفاظ على موقعه في المجتمع وليس لإرضاء ربه وخوفه منه.
وقد يغيب المرءُ عن أداء صلاة العيد إن هو غفل أن يقتني له بذلة أنيقة بيضاء فاقعٌ لونها، فيفضل التمادي في نومه العميق إلى آخر النهار من أن يؤدي صلاة العيد بجلباب عادي خوفاً من ألسنة الناس الحارقة، وهناك من يهجر الصلاة طول العام حتى إذا أقبل رمضان تجده من الصائمين، لأن العادة تقتضي أن يصوم جميع أفراد الحي البالغين حتى وإن لم يقترن صومهم بصلاتهم، وبالتالي لا يستطيع أن يُشهر هو إفطاره علناً خوفاً من سهام المجتمع، وقد يكون إنساناً طيباً محترماً فيزيد ذلك من خشيته على فقدِ مكانته بين الناس.
وغير ذلك لا يعد ولا يحصى من المواقف الإنسانية التي تبين بوضوح أن العادة قد تأخذ من الإهتمام ما لم يظفر به الدين، وقد تعرف من القداسة والحرص ما لم تنجح تعاليمه في تكريسه، رغم أن الدين قانون سماوي له من الشأن العظيم والقدر الجليل ما لا تجده في القوانين الوضعية التي تستمد بعض تشريعاتها من أعراف المجتمع، وبالتالي لا يمكن إنكار سلطة العادة أو تجاهلها، ويبقى السؤال المطروح كيف تغرس العادة جذورها في النشء الصاعد؟ وهل يمكننا أن نزرع فيه بعض القيم حتى يحرص عليها حرصه على أداء العبادات إن كان من أصحابها؟
الجواب عن هذا السؤال هو نعم ممكن، بل هو مطلوب للغاية، وما رُقيّ المجتمعات الأوروبية إلا نتيجة صقلها للقيم والأخلاق في نسق التربية وتهذيب النشء الصاعد عليها، ونحن نرى كيف أن الفرد في الدول المتقدمة إن هو تقلّد منصباً من المناصب يسعى جاهداً وبكل الطرق الممكنة إلى التفاني في عمله وتوخي الدقّة والحذر وإعطاء كل ذي حق حقّه، لأنه تربى على ذلك، وإن لم يكن قد تلقى قطّ درساً في ديانة من الديانات من قبل، وكذلك تجد المجتمع بأكمله تربى على نبذ الكذب والنفاق والتلون والنهب والسلب في الخفاء، فأصبح ذلك عادة متفقاً عليها بين الأفراد رغم أنهم قد يسهرون إلى آخر الليل يشربون الخمر ويلعبون الورق.
لذا نرى أن المجتمعات الأوروبية وإن قلّ وازعها الديني أو انعدم إلا أنها متشبثة بالقيم والعادات النبيلة أيّما تشبث، وهذا يخلق لها نوعا من التوازن الأخلاقي يحقق لها الأمن الإجتماعي المطلوب، في حين نجد في الدول العربية أن العادات السيئة تغلب على الطبائع الجيدة، وبالتالي يكون تأثير ذلك واضحاً على مستوى التدين لدى كل فرد فيها، مما يُنتج مجتمعاً مضطرباً هشّاً تائها تنخره العادات والتقاليد المتخلفة، فيحاول رجال الدين ضعفاء التكوين شدّ هذه العادات إلى حظيرة المعتقدات حتى يُعطوا لها مبرراً مقبولا وإن كان الدين منها براء.
إن ما ينقصنا هو الوعي المدرك لطبيعة الأمور، فإذا غاب الوعي أصبحنا لا نرى الأشياء على حقيقتها، وربما اختلط علينا الحابل بالنابل فصرنا كالمصاب بانفصام الشخصية، إن الوعي هو سلاحنا الناجع حتى لا ننساق وراء العادات الهدامة، فنميز منها بين ما هو صالح يُعتدُّ به مما هو فاسد لا طائل من ورائه قبل أن نجعلها معياراً حقيقياً لقراراتنا الحاسمة، فإما أن تحركنا العادات والتقاليد، وإما أن يتحكم الدين في أمور حياتنا، وصدامهما ليس إلا نتاجا عن فهم خاطئ لقيم الدين وأهدافه، أو انجراف ساذج نحو سلطة العادة.
إن الدين لا يمكنه أن يعشش في العقول الجاهلة المتخلفة، لأنه سيتحول بلا شك إلى شيء آخر لا يشبه الدين في شيء، وهو ليس بالأمر المستخَفّ به حتى تستكشف خباياه كل العقول على اختلاف درجاتها دون مجهود منها، بل هو مدرسة متقدمة تتطلب من الإنسان قدراً وافراً من الرقي والصفاء حتى يستوعب مقاصده، ومستوى رفيعا من الإستعداد النفسي والروحي حتى لا يسقط سريعا أمام جبروت العادات وحكم المجتمع.