تذكرة السفر الأولى مع الإعلامية ثريا الصواف، أحد أبرز الوجوه التلفزيونية المغربية ما بين مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، فقد أغنت المشاهدة التلفزية المغربية بتجربتها المؤكدة، وطبعتها بالعديد من الإنجازات الفارقة وقتها، فقد حاورت المرأة بشجاعة نادرة كبار الشخصيات السياسية والثقافية العالمية، من رؤساء الدول والحكومات، وكانت أول إعلامية مغربية استطاعت أن تلج إلى عوالم القصر الملكي المغربي الداخلية في مهمة إعلامية لم تكن سهلة على الإطلاق.
الآن دعني أنتقل بك إلى الحديث عن التماس الأول الذي تم بينك وبين عالم الإعلام.
كيف ومن أين أتت ثورية الصواف إلى الصحافة؟
ودعنا نتحدث عن تجربتك براديو»ميدي1» وقتها؟
هكذا، بعد هـــذه المراحــل التكوينيـــة الابتدائية في مساري، استسلمت خطواتي في الحياة، على ما يبدو، للقدر يقودها بأسلوبه وتقديراته الخاصين، والتي لم يكن أمامي إلا الإذعان لسريانها المرسوم. أحيانا يكون حكم القدر أقوى وأنفذ.
هناك منعرجات في حياتنا نخوضها دون أن نكون قد منحنا لأنفسنا ما يلزم من الوقت والتفكير للتدقيق في جدواها ومآلاتها.
في سن مبكرة جدا خضت تجربة الزواج، وعلى ما أعتقد في سن السابعة عشر. وكخطوة أولى كان علي وقتها أن أنتقل رفقة زوجي للإقامة بمدينة القنيطرة، أول مدينة سأسكنها بإحساس المرأة الملتزمة أُسريا، وليس بإحساس الشابة الحيوية المنفتحة، ولربما المنطلقة. دام ذلك أربع سنوات ذقت خلالها معنى الاستقرار إلى جانب زوجي وأسرتي.
كان قد سبق لي من قبل أن قمت بسفريات غنية متعددة ومتنوعة مع والدي وإخوتي لمدن مغربية كثيرة، ولذلك لم تشكل القنيطرة أي دهشة استثنائية بالنسبة لي، ماعدا طبعا، أنني كنت معنية باكتشافها كفضاء جغرافي، وبمعرفة طبائع أهلها وأمزجتهم وخصوصياتهم في العيش، ومعنية أيضا باكتساب صداقاتهم و«جيرتهم».
عموما، في القنيطرة كنت معنية بكل ما سيمنحني الانسجام اللازم مع مدينة توجد في الجنوب أتت إليها شابة يافعة من الشمال.
مواليا، سيرسم لي القدر خطوة ثانية، ودائما كزوجة، وسأنتقل للعيش بمدينة الدار البيضاء. ومع تعاقب الاستقرار بهذه المدينة، ولكي أمنح حياتي بعض الدينامية والحيوية، وللتغلب على روتين أجواء البيت وضجره، فكرت في الخروج لولوج عالم الشغل. وهكذا سأشتعل، كتجربة أولى، في مؤسسة بنكية استأنست خلالها بعالم الأرقام والعمولات، واستمتعت بمقابلة الناس وجها لوجه. كانت حقا تجربة مثمرة من جانب التواصل المباشر والاحتكاك الواقعي اليومي.
لا أذكر جيدا المدة التي قضيتها بالمؤسسة البنكية، غير أنني، ولظروف مزاجية عادية جدا، غيرت طبيعة العمل، واشتغلت بوكالة للتأمين قضيت بها سنوات قبل أن يعدني القدر بما هو أجمل، وبما سيناسب موهبتي، قبل أن يعدني بما سيجعلني أشعر أني في حقا جلدي.
وللتذكير فقط، أني كنت بداية قد اشتغلت بطنجة مدة سنتين بمنظمة إفريقية تسمى.
«le cafret». وليس معنى ذلك سوى إمكانية القول بأنني كنت قد راكمت خبرة عمومية جيدة على مستوى الاحتكاك بالناس والتواصل معهم. إذ على الرغم من أن المؤسسات هذه التي اشتغلت بها لم تكن توائم ما كنت منذورة له، إلا أنها شكلت، في مشواري، مصادر حقيقيـــة للتزود بالتجــارب الانسانية، مصادر حقيقيــة للتزود بمعرفةـــ ميدانية حول كيفية التعامل مع مختلف الشرائح والأصناف البشرية.
على ما يفهم من حديثك لحد الآن أنه لم تكن الصحافة والإعلام واردين في تطلعاتك.
حصل الأمر بإرادة تلقائية جدا يصعب علي إدراك كيف تم تدبيرها، حصل مع بداية 1981.
الأمر كان أشبه بضربة قدر إلهية عظيمة استقصدتني. فخلال عطلة كنت أقضيها بمدينتي الأصلية طنجة، دعتني صديقة حميمة لي كي أرافقها لزيارة ابنة عمها كانت تشتغل بمحطة راديو «ميدي1»، وطبعا كنت سعيدة بالدعوة، وكنت سعيدة أكثر بزيارة هذه الإذاعة العظيمة الرائدة. لكني لم أكن أتوقع، على الإطلاق، أن حياتي ستتغير جذريا في لحظة بمجرد ما ستطأ قدمي مقر هذه البناية.
كنا عند بهــو الإذاعـــة نتجاذب أطــراف الحديث، أنا وصديقتي وابنة عمها، وحصل أن مر صدفة جنبنا مدير أخبار القناة، وبفجائية كاملة توقف عندنا وانخرط معنا بلطافة يشاركنا ما كنا نتحادث في شأنه.
فهمت بعدها أن الرجل إنما توقف بسبب خامة صوتي التي كانت قد أثــارت شغفـــه واهتمامه.
طرح علي بداية بعض الأسئلة العابرة، والتي لم تكن ذات صلة وطيدة بالإذاعة أو بمهنة الإعلام. إلا أن الرجل، وهو يغادرنا، اقترح علي أن أزوره في أقرب وقت ممكن، مع تلميح نبيل منه على أن الأمر يهمني جدا، تلميح مرفق بإشارة نصر يدوية.
غادرت المبنى بطعم مغاير اختلطت فيه أحاسيس الفرح بالاضطراب. طبعا مع ما اقتضاه الأمر من سيل في الأسئلة المقلقة التي راودتني حول طبيعة أهمية الأمر هذا الذي يريدني الرجل أن أزوره من أجله. ولا أخفي أن تأويلاتي ذهبت بعيدة جدا. ولا أخفي أيضا أني اكتشفت أن طبيعتي من النوع الذي يقهره الانتظار.
عموما غادرت بالخفة التي كانت ترفعني إلى مستوى الفراشات المحلقة بانتشاء، وإلى الدرجة التي لم ألتفت معها إلى الكيفية الخارقة التي قطعت بها المسافة الفاصلة بين بناية الإذاعة والبيت.
في أول لقاء بيننا، وبعدما تحدثنا طويلا عن الإعلام وأهميته في المجتمعات المعاصرة، وعن بعض التجارب الإعلامية الرائدة في العالم، وعن الدور المفصلي الذي تضطلع به خصوصية الصوت والشكل في ممارسة هذه المهنة، وعن طبيعة صوتي المميزة، اقترح علي بسرعة فائقة موعدا في اليوم الموالي للقيام باختبارات الأداء في الأستوديو.
ـ يا إلهي !..ما الذي يحصل؟
أسبوعا واحدا كان كافيــا بعدها ليتــم توظيفي مباشرة بالإذاعة، ولأتحول إلى واحدة من رائدات التنشيط الإذاعي بالقناة الدولية «ميدي1».
ـ واااو.
أكيد أنه كان امتيازا كبيرا جدا، وأكيد أن صوتي المميز ساعدني في ذلك، غير أنني يجب أن أعترف ان المهمة لم تكن تخلو من صعوبات شتى، وأن عملي الجديد هذا لم يكن سهلا كما قد نتوقع للوهلة الأولى.
تَعَلُّمُ أصول المهنة واكتسابها وإتقانها كان طويلا وشاقا بالنسبة لي. كان علي أن أشتغل أكثر على خامة صوتي بالرغم من أنه كان مميزا جدا وجالبا للانتباه ، وكان علي أن أتغلب على الخجل الذي كان يطبعه، وعلى الاضطراب، أحيانا، الذي كان ينتابه بسبب التوتر أمام الميكروفون.
وهكذا خضت بعض التمرينات التي لم تكن سهلة مطلقا. كان على المبتدئين مثلي أن يجتازوا مشوارا أوليا قاسيا، أن يمروا لزاما ببرامج التوقيتات الصباحية جدا، وكان عليهم أن يعتادوا على الاستيقاظ يوميا على الساعة الخامسة صباحا، التي لا مفر منها، استعدادا لانطلاق البرامج.
تمريناتي الأولى تمت تحت العناية الرائعة والجيدة للأستاذ المكاوي، أحد أكبر الاحترافيين في مجال الراديو. فعلى يديه تمدرست، إذا صح التعبير، فقد تعهدني الرجل بصبر وتسامح كبيرين، وكان صوته الرخيم الدافئ يلهمني أكثر ويحثني على التفاعل مع تدخلاته الممنهجة في تدريبي. التباين كان صارخا بيننا طبعا، فقد كنت أشعر أني بوزن الريشة بصوتي الخجول المتلعثم أمامه، غير أني، مع هذا الخبير العتيد بالأمواج الإذاعية شعرت أني مودعة بين يدين أمينتين.
تواصلت التداريب على يديه إلى اليوم الذي تمكنت فيه من التحليق بمفردي وبإمكانياتي التي تطورت بشكل رفيع جدا. فبالرغم من الأشهر العديدة التي قضيتــها رفقــة هـــذا المايسترو، ظل على عاتقي أن أنحت بصمتي الخاصة بي في الأداء، وأن أختط نمطي الذاتي الملائم لطبيعة صوتي وشخصيتي.
كان عملا يوميا دؤوبا انخرطت فيه بكل جوارحي وعواطفي وقواي الباطنية، انخرطت فيه بإصرار وبعزم لأنني لم أكن لأقبل بالفشل.
سنة واحدة من بعد انطلاقتي الإذاعية، أتت مجهوداتي أُكلها، فقد أسندت إلي، وخلال أوقات الذروة، من 12h إلى 15h، مهمة تنشيط برنامج موسيقي «carrefour»، تتخلله نشرتان إخباريتان رئيسيتان.
ولإنجـــاح برنامــج موسيقـــي كان علي الاهتمام بمعلوماتي في مجال الأغنية والألحان، بل والاطلاع على كل ما يجد في هذا المجال. باختصار كان علي تعلم الكثير عن عالم كنت أجهله تقريبا.
كانت قناة «ميدي1» قد اكتسبت سمعة وصدى كبيرين، وحظيت بانتشار واسع منقطع النظير في جميع أنحاء المغرب، بل وفي جميع أرجاء بلاد المغرب العربي المترامية الأطراف.
كانت نسبة المتابعة مذهلة ومشجعة على مزيد من التفكير في تجويد الأداء بكل المهارات الممكنة.
وحيدة داخل الأستوديو وجها لوجه مع الميكروفون كنت قد نسجت، مع مرور الأيام، شبكة من العلاقات القوية الافتراضية مع المستمعين، تطبعها روح المشاركة المباشرة المؤثرة. كنت أحس أني قريبة منهم ومن اهتماماتهم، وكان ذلك يمنحني دفءاً إنسانيا استثنائيا بالغا، وسعادة روحية لا تتصور، لكوني أساهم بتجاوبي وبإنصاتي وبتفاعلي، أساهم في التخفيف من وطأة حياتهم اليومية وقسوتها عليهم، وبالتخفيف من عزلتهم، وبجعلهم طيلة وقت البرنامج منزاحين عن مكاره الحياة، بعيدين عن آلامها وتقلباتها.
لم تكن حياتي تشكل استثناء إنسانيا، فقد كنت مثل جميع خلق الله أتعرض لمثل ما يتعرضون له من اهتزازات في الحياة، وأواجه مثلهم أيضا صعوبات وإكراهات من كل المنعطفات. وكانت هناك أيام يحصل فيها أن أتأثر أمام الحالات التي أواجهها فيفقد فيها صوتي نضارته وحيويته، وينطبع بنبرة الألم، غير أن الاحترافية والمسؤولية كانت تقتضي، بمجرد ما ينفتح الميكروفون أمامي، أن أجعل الظلمة القابعة بداخلي تتوارى إلى الخلف، وأن أظل محتفظة بربطة الجأش، وبالدور الذي يفترض أن أضطلع به كإعلامية واجبها الأول أن تقدم النموذج الأقوى والأسمى للاحتذاء به في مواجهة المآسي، وأن تظهر بصيغة المعضد والمساند والمبشر بالآمال.
كان كل هذا يحصل بالصوت، ولذلك فما أكثر المرات التي كنت أشغل فيها خيالاتي لتصور وجوه الذين كنت أحادثهم. ما أكثر المرات التي كنت أخترع لهم فيها ملامح من أعماقي الإنسانية المتأثرة بتدخلاتهم.
دامت تجربة «ميدي1» من 1981 إلى 1985 راكمت خلالها خبرة فتحت أمامي آفاقا أكثر رحابة وإثارة كانت آتية لامحالة في، آتية من المركز.