نوستالجيا (1) مع يوسف التيجاني – السينيما أو السوليما

أضيفت كلمة سينما إلى قاموسنا في سن جد مبكر، كيف لا وحينا كان يعج بدور السينما التي تحل بعد غروب الشمس، كانت متشابهة الشكل إلى حد كبير، صندوق من “الكرطون” المقوى مجانا من عند البقال ولا يهم إن كان من أصل الزيت أو الصابون …. تقطع جنبات سطحه وتحذف قاعدته لتعوض بغطاء بلاستيكي شفاف أو أقرب لذلك أو “كاغيط د الزبدة” والذي يمثل الشاشة، بعض الدمى البلاستيكية تتماشى مع موضوع الفيلم … (الفارس على الفرس إن كان فيلم حربي والدمية في حالة الدراما …..) بالإضافة إلى شمعة.
توضع الدمى داخل الصندوق على القاعدة المستطيلة وعلى مسافة من الشاشة السحرية، يتم اختيار المتفرجين بعناية فائقة فهم من سيصورون الفيلم في مخيلتهم مع بعض التوجيهات والمساعدات من المخرج الذي يقوم بتصفيفهم قبالة الشاشة ويتمركز في الخلف موقدا الشمعة لتبدأ الفرجة ها ها ها …… وكانت بيئة الحي جد ملائمة ” هوليود المساكين” حيث انعدام الإنارة العمومية يزيد الفرجة رونقا ولا حاجة لنا بها فالكل يحسن عيشة العميان بل أن القطط تستلطف منا ليلا ها ها ها……
يبدأ المخرج بتحريك الشمعة يمينا وشمالا، إلى الأعلى والى الأسفل بإتقان فينعكس ضل الدمى على الشاشة .. آنذاك يسرح بنا الخيال وتتعالى القهقهات وبين الفينة والأخرى يُسْقط المخرج الفرس بأصبعه فنتخيله سقط في المعركة … فنتأسف ….. ونلتف إلى بعضنا البعض ونشرح بعض اللقطات وهكذا إلى نهاية الفيلم الرهينة بطول أو قصر الشمعة.
وكان بعض المخرجين يقتاتون من أعمالهم الفنية فيشترطون خمس سنتيمات للفرد ولو لسد مصاريف الشمع الذي كان الإقبال عليه كثيرا نظرا لكثرة انقطاع التيار الكهربائي.
تلك كانت الدروس التمهيدية للانتقال إلى عالم السينما بالمعنى الحقيقي حيث كان بمدينتي أربع دور لها، أبيندا، إديال، كوليسيو و اسبانيا أو بالأحرى مسرح اسبانيا، هاتان الأخيرتان كانتا الأقرب إلى الطبقة الشعبية حيث بالإضافة إلى”بوطاكا” الجناح الممتاز كان هناك ” خينيرال” محبوب الجماهير بتعريفة 0.40 درهم حيث نجد ملاذنا..
وكانت اسبانيا وكوليسيو مختصتان في مادة الاجتماعيات أي الأفلام الهندية “الهنداوية”=الجغرافيا ههه حيث الطبيعة الخلابة والتضاريس والفصول الأربعة في كل فيلم …. و أفلام الكاراطي= التاريخ هههه حيث السباق نحو الانفراد بالحكم … كثرة الانتقامات ومنطق القوة واستعراض العضلات …… ومن بين الأفلام الهندية الشهيرة “منكلا البدوية” كان الآباء يصطحبن الأمهات لمشاهدته لجماليته، “دوستي” ، “شان” ديسكو دانسير….. كنا نستغني عن قراءة الترجمة خوفا من ضياع بعض اللقطات ونكتفي بمسايرة أحاسيس ممثلي أدوار الخير، نضحك حين يضحكون ونحزن حين يحزنون …. وفي مادة التاريخ فان البطل المحبوب بدون منازع كان “بروسلي” والذي كنا نتباها بتقليد حركاته الرياضية وخصوصا اللعب بالسلسلة ذات الأطراف الخشبية وهو سلاح أبيض يسر المشاغبين، دون أن ننسى “بيك بوس” ….. … في كوليسيو كان الجلوس على كراسي خشبية طويلة (مثل سراقا البلايص) ممتازة للفرجة إلا في فيلم “دراكولا” حيث كان المشهد مرعبا تحس كأن دراكولا سينقض عليك و أما في اسبانيا فكان تموقعنا في الطابق العلوي ويجب أن تختار المكان بدقة وأن تكون لك دراية في علم الزوايا لكثرة الأعمدة التي تحجب الرؤية وتجبرك أن تنطح من حين لآخر من على اليمين واليسار لتكتمل الفرجة.
ما أبينيدا فكان ثمنها مرتفعا شيئا ما 1.10 درهم ثم بعدها 1.50 تختار أفلام جيدة وكراسيها جلدية رطبة تتعرض للتمزيق كلما نشط مقص المراقبة (أصيل هذا المقص) أو كثرت الأعطاب …. وبثمن متقارب كانت تذكرة إديال.
واذا كنا نرغب في الذهاب جماعة للسينما فما علينا إلا أن نرسل شخصان باكرا لحجز كراسي متقاربة إن لم تكن ملتصقة (من هنا أظن أصل الحجز في حفلات الزفاف حاليا …) .. وكان هامش التأخر بمقدار نصف ساعة حيث بعد الموسيقى تبدأ نشرة الأخبار أو الأنباء وكنا نسميها في العرائش “النوضو” وكان موضوعها لا تعرف تجديدا إلا بعد مدة، وبعدها كانت تعرض لقطات للأفلام المقبلة قصد الإشهار والتشويق. وإذا أتيت متأخرا بعد انطفاء الأضواء فليس لك من سبيل للعثور على الأصدقاء سوى الصراخ ملء الحنجرة باسمهم وانتظار الرد بالصراخ أيضا مما كان يزعج الرواد أصحاب الذوق الرفيع الذين إن تأخروا يدفعون إتاوة لصاحب المصباح اليدوي، “مول الطِّيرْنا بالشمالية ومول البيل بالداخلية” الذي كان يدلهم على المكان الشاغر كطريقة أرقى من العويل.
ومن سابع المستحيلات داخل دور السينما هو تحقيق الصمت المطلق، إذ لا يمكن أن تسلم من صوت شق حبة “الزريع” المتتالي والمتسارع حيث تصبح مقدمات وجوهنا تحاكي الأرانب طيلة الساعة إلى أن ينتهي الزاد لتشعل الأضواء ثانية معلنة “الأنطيرفال” أي منتصف الفيلم لتفسح المجال لإطفاء نار العطش من “التمالح” بالماء أو المشروبات الغازية التي كانت بالنسبة لنا من الكماليات..
وكانت “زريعة” ولد العم هي الأفضل دون أن ننسى “تمالح” با الحسين بسوق الصغير ….. أما من كانت ظروفه تسمح ف”السندويش” والمونادا داخل السينيما يعد من الرفاهيات وفي هذا الشأن كنا نعشق “سندويش” الدراويش عند خَنِّيرَا صاحب الكشك الملتسق بسينما إديال، إذ يكفينا ربع الخبز و”الطرطية” أو “المعقودة” مع “لاصوص” تسكب من قنينة زيت سيبو كانت رطبة تسر الناظرين أيضا و نستعطفه لزيادة رشة أو رشتين وكان لايبخل……. سألت عنه فأخبروني أنه في مدينة خريبكة حاليا.
ينتهي الفلم ويذهب كل إلى حال سبيله، والسينيما لا تنتهي ……….. ، كان لكل حي طقوسه السينيمائية، ففي حينا مثلا ديور الحواثة، نستيقظ صباحا بعد غسل الوجه أو الاكتفاء بتقليد القطط، نقف بسور معمل الدباغة، دار شباب الحي المتعددة الاختصاصات من لعب القمار…. إلى النضال وبعد بلوغ النصاب تبدأ مناقشة الفيلم بحضور خبيروحكم يفصل بيننا حين يلبس النقاش عباءة الإتجاه المعاكس. وينقسم الحضور إلى ثلاث فرق ، فريق شاهد الفلم ولم يفهمه فيكمل المشهد، فريق مقبل على المشاهدة وعليه أن يأخذ فكرة عامة قبلية وفريق لا تسمح ظروفه المادية بالمشاهدة فيكتفي بالأوديو دون فيديو ولا عيب في ذلك مادام ذوق الإنصات تربى لدينا آنذاك بواسطة المدياع حيث كانت تبث مسلسلات “نهار الخمييييس” و “سيف ذو اليزل” بنفس الطريقة …..
أما في حي آخر لم اعد أتذكر أهو القبيبات أم باب البحر فكانت الطقوس تختلف تماما، يشتري جماعة من الأصدقاء تذكرة لأحد الأشخاص (ش) ويشاهد الفيلم وحده من الخامسة إلى السابعة، ليعود للمشاهدة بمعية المجموعة ليخلق فرجة و سينما داخل السينما حيث كان يمتاز بذاكرة قوية تحفظ جميع أحداث الفيلم ليصبح عنصرا متحكما في حركات الممثلين بإعطائهم الأوامر مسبقا للقيام بالحركات التي يضبط وقت وقوعها بالثانية… كأن يأمر البطل بالضرب بالرجل وبعد ذلك باليد تم ينبهه بوجود أحد يتربص به بالخلف فيدير وجهه وكأنه يسمعه هههه ويقول له ناصحا “هذا ماينفعك معاه غير الفردي” فيخرج البطل مسدسه والأصدقاء تتعالى قهقهاتهم …. الفوضى والسلام ههههه وهكذا حتى ينتهي الفيلمان وأنهي بدوري سردي بسينما لم أعرف لها لاقاع ولاساس تلك التي كانت في سوق الصغير على جدار بمدخل حي القبيبات في بعض المناسبات فلا صوت ولا صورة ولا موضوع أي أقل من سينما الحي الكرتونية وأكتفي بهذا القدر وإلى نوستالجا قادمة بحول الله.

Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول اقرأ أكثر