حاورها : عبدالإله المويسي
إذن، يفهم من كلامك بأن خطوتك الأولى في التلفزيون مع RTM أنضجت تجربتك الإعلامية وعمقتها وصوبتها نحو الأجود. وتقصيدين بالأجود، ربما انتقالك إلى خطوة أخرى أكبر تراءت في الأفق مع تأسيس 2M.
هل كان الانتقال سلسا وطبيعيا أم أن اعتبارات ما دفعتك لوقف العمل مع RTM ؟
اشتغلت بـ RTM من 1985 إلى حدود 1987 كمقدمة أخبار بالفرنسية، وهي المرحلة التي أبان خلالها الجميع عن إرادة قوية متجهة، بكل إمكانياتها، نحو ابتكار تلفزيون مغربي عصري متجدد ودينامي، وطبعا مع مظهر مرئي وصوتي غير معتادين. وهي المرحلة التي عرفت برفع شعار «التلفزة تتحرك». وبشكل أو بآخر حاولت جميع الإرادات الرسمية، ومعها الكفاءات الوطنية جعل صورة RTM لا تقل شأنا عن FRANCE2 أو TF1. وسارت الأمور بشكل جيد جدا. وطبعا لا ينبغي أن نتجاهل أن ذلك حصل أيضا بفضل الإدارة التدبيرية الحكيمة للمهندس PAKARD.
لكننا للأسف كنا نعلم بأن بقاء PAKARD، مهما حصل، لن يدوم، وأنه يوما ما سيغادر القناة. وهذا فعلا ما حصل. لم يمر إلا وقت وجيز حتى انتهت مهمته، وكان عليه أن يمرر القيادة، في غضون 3 أشهر، إلى وزارة الإعلام.
كانت وقتها ميزانية السنة قد استنفذت قبل وقت طويل من مغادرة الفرنسيين. وكنتيجة لذلك ظهرت علامات الإجهاد والإرهاق والتضعضع المرتبطين بماليتها. والتي كانت طبعا لها انعكاسات سلبية على أداء القناة. علمنا أن نهاية الحقبة وشيكة لا محالة. أما بالنسبة إلينا، فلم نكن نعلم ما الذي يخفيه المستقبل لنا. ولكن حقا كانت حماستنا تنهار ومعنوياتنا تتهاوى.
أجهزة العرض بهتت يومًا بعد يوم، مع عودة ظهور المنظورات السلبية القديمة بمادة إعلامية مؤسساتية وأكاديمية مبالغ فيها، طبعا إضافة إلى ضعف الموارد اللوجيستيكية البسيطة جدا. حتى ورق الكتابة كان ينفذ.
لقد تم حقا كسر السحر الجميل الذي صنعناه. تلاشى الخيال والإبداع مع مر الأيام، بل إن محتويات النشرات فقدت بريقها.
وهكذا كان من المنطقي ان نرحل، مادام الحلم قد رحل.
هكذا توقفت الحكاية الحالمة الخيالية التي تعلقنا بها باكتشافنا للأمر الواقع المتضعضع الذي بدأت تعيشه RTM. كان لدينا انطباع بأنه قد تم إغراؤنا والتخلي عنا نحن النجوم، أو Les Zazous، كما كان الناس يلقبوننا.
ولكـن تأسيــس 2M كان سنــة 1989 ؟
نعم، وخلال هذه المرحلة الفاصلة، والتي امتدت من 1987 إلى 1991، توجهت للاشتغال في مجال الأعمال الحرة مع وكالات التواصل والإنتاج الإعلامي. بداية اشتغلت متعاونة مع بنك الوفاء من ّأجل إنشاء وحدة مكلفة بوسائل الاتصال الداخلية: المجلات الشهرية والنشرات الإخبارية الداخلية.
وخلال هذه الفترة أيضا اغتنمت الفرصة لإعطاء نفسي بعض الاسترخاء. انتبهت قليلا إلى حياتي الخاصة. بدأت اعطي بعض الاهتمام لتدبير ذاتي. وخضت مشاوير كثيرة ذات طابع حميمي.
أذكر أن نوستالجيا طنجة كانت تغزوني. وهكذا كنت أزورها وأقضي بها أوقاتا أستعيد خلاها بعضا مني كطفلة ومراهقة وشابة. كنت أزور عمتي التي اختزلت فيها أسرتي. كنت أقيم ببيتها قرب المرسى حيث، كما سبق أن أشرت، تتراءى طنجة البحرية، طنجة بكل حمولاتها الكوسموبوليتية. وكنت أغتنم الفرصة فنخط برنامجا أنا وابنة عمتي ليلى نسترجع بعض مباهج طنجة….استرجعنا نوستالجيات البحر والبولفار والمدينة القديمة بأسواقها وبازاراتها. استرجعنا الحكايات العجيبة لكبار الفنانين والأدباء، بول بولز، تينيسي وليامز، بربارا هيوستون، أعضاء GENERATION BEAT. بل كنا نزور أطلال إقاماتهم.
وكيف إذن جاء عرض 2M ؟
كانت الشائعات تنتشر حول قناة تلفزيونية ثانية قيد الإعداد. هذا ما كان يصل إلى أسماعنا. بعدها تأكد الشائعات. لكن المشروع كان بطيئًا في تحقيقه لأسباب غامضة. في البداية، كان سيتم إنشاء 2M بمشاركة Medi1، غير أنه تبين بعد المفاوضات أن الشركة الفرنسية قررت الانسحاب من المشروع.
تم استرداد الملف بواسطة ONA؛ «كونسورتيوم» خاص بقيادة صهر الملك، ولم يكن المساهم الرئيسي فيه طبعا سوى صاحب الجلالة نفسه.
أرادت ONA التي كان لها تداعيات في العديد من قطاعات الاقتصاد والمالية، أن تمتد أنشطتها إلى التواصل.
هكذا أطلقت ONA في 4 مارس 1989، في إعلان إشهاري ضخم،
«2M Internationale»، أول تلفزيون خاص في المغرب وإفريقيا والعالم العربي.
كان الحدث كبيرًا في مشهد سمعي بصري جامد، صمد خلاله التلفزيون الوطني القديم، وهو TVM، والذي كان قد عاد بعد عدة مبادرات التغيير والتطوير إلى الخمول. وصار بدون طعم أو ملمح مميز، باستثناء الأفلام المطولة التي أريد لها إرضاء الناس كل ليلة أحد.
ومرة أخرى، وبالصدفة أيضا، سيزاول معي القدر لعبته الجميلة في صياغة مشوار حياتي، وسأجد نفسي داخل مبنى Télé Plus، وهو الملحق الشهري المختص في نشر برامج القناة.
كنت أرافق صديقا عزيزا علي لديه عمود صحفي حول السينما، وهو نورالدين الصايل، وكان عليه وقتها أن يسلم مقاله، وبالصدفة تقاطعنا مع رئيس التحرير السيد حسن علوي، وهو صحافي لامع بلا شك، وواحد من أفضل الأقلام في مجاله، شخص دافئ وودود لا تفــارق الابتسامــة ملامـحــه. بعد الحديــث في عــدة أشيــاء متعلقة بالصحافة والحياة، اقترح علي بشكل تلقائي أن يعرفنـــي بالمدير العام للقناة الثانية. وفي الحال أجرى اتصالا بتوفيق بناني سميرس، وحدد لي موعدا معه. لم أجرؤ على تصديق الأمر.
ـ يا إلهي! .. يا لها من فرصة !
قلت في نفســـي، وعلامــات الفرحة تغمر كل كياني.
كانت M2 في بدايتها تقدم برامج متنوعة، ولا تنحصر في مجال الأخبار، لتصير بذلك مجالا للحرية والنقاش العمومي والتعبير عن الآراء المختلفة. وهكذا ولأول مرة بالمغرب أمكن الاطلاع من خلال شاشة التلفزيون على وجود حياة عامة، وسياسة مجتمعية بمختلف تعبيراتها وتياراتها الحزبية المعارضة. المتدخلون حتى وإن كانوا من اليسار يستطيعون التعبير عن مواقفهم بكل جرأة، والتطرق لجميع مواضيع الساعة الكبرى، أيا كانت حدتها.
لم يكن ممكنا تجاهل هذا التغير الجذري في الخطاب السياسي الذي قطع مع الفكر الأحادي، والذي حافظت عليه القناة الأولى.
وللمرة الأولى، سيتم التطرق والكشف عن المشاكل السوسيواقتصادية دون حواجز أو خطوط حمراء..الفقر، البطالة، الأمية، أحياء الصفيـــح، الأمهـــات العازبــات، مآسي أطفال الشوارع، بل وحتى آفة الفساد والرشوة.. المغرب الحقيقي بجميع أوجهه وجوانبه المظلمة.
بسرعة أصبحت قناة 2M الدولية نموذجا للتطور والتحديث، مما أثارني وجدد في نفسي الرغبة في العمل بالمجال الإعلامي والصحفي.
منذ البداية ، ناشدت برامج 2M تنوعها وتعددها. كانت جذابة ومبتكرة ، مع مفاهيم جديدة وعروض من الدرجة الأولى ، والكثير من الرياضة ، ومجموعة مختارة من أفضل الأفلام، على عكس التباطؤ الروتيني في TVM. تم تزويد أمسيات التلفزيون الجيدة ببرامج غنية ومتنوعة ، وهو ما يرضي جميع الأعمار.
تحت تأثير هذا الحضــور القــوي للقناة، وبفضل دور الصدفة وقعت عقدي مع Soread 2M. حصل ذلك سنة 1991، واستمر العمل بها إلى حدود 2014.
ولكن جنون 2M كان قد فاق كل توقعات المسؤولين المسيرين. وفي سرعة فائقة للغاية نفذ مخزون أجهزة فك التشفير لديها. على الرغم من تكلفة تركيب الصحون الهوائية، وارتفاع أسعار الجهاز والاشتراك، استمر الطلب في النمو.
ورسخ الاعتقاد بأن التلفزيون الآن يشغل المنازل المغربية. من الأشهر الأولى، أمكننا أن نراهن على طول عمر 2M، حيث تم تأكيد نجاحها. في نهاية عام من النشاط، ستضيف القناة إلى قوسها وترا جديدا عن طريق تطوير نشرة «الأخبار». كان «ملخص الأخبار» بمثابة لقاء إعلامي حقيقي يشد المشاهدين. وفي هذه الأثناء، ركزت الأخبار بشكل حصري على الأخبار الدولية.
في هذه الفترة قامــت الإدارة باختيــار الاستثمــار في المــوارد البشريــة والماديـة والبرامجية.
كان «لقاء» مثلا، وهو برنامج ممتاز باللغة العربية ذو طبيعة اجتماعية قد أكسب القناة نجاحا كبيرا. فقد تعامل مع مشاكل المجتمع الحاسمة. لأول مرة في تاريخ الصوت المغربي المرئي تمت مناقشة مواضيع المحرمات علانية مع ش،هادات وتحليلات من قبل المتخصصين الداعمين. أعطى هذا طابعًا خاصًا للمناقشات التي تحقق متابعة على نطاق واسع جدًا، وتحظى بتقدير جميع مكونات المجتمع. البرنامج كان نافذة مفتوحة على المغرب الحقيقي المخفي حتى ذلك الحين. تمت معالجة البطالة والبؤس والأمية وحالة المرأة والمراهقة وأطفال الشوارع. والسحر والمعتقدات بواقعية، بقدر ما كانت مثيرة، كانت مخيفة. تم بث هذا العرض اليومي في أوقات واضحة ومميزة، مما أدى إلى تحطيم أرقام قياسية في مشاهدة الجمهور، بل وأصبح قاطرة حقيقية لمجموع البرامج الموالية.